apowesam Admin
عدد المساهمات : 576 تاريخ التسجيل : 21/02/2010
| موضوع: تفسير سوره المرسلات الخميس فبراير 25, 2010 12:51 am | |
| سورة المرسَلات ** سورة المرسَلات مكّيّةٌ في قول الحسن وعِكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة إلا آية منها, وهي قوله تعالى: {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ} مدنية. وقا نزلت {وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً} على النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ ونحن معه نسير, حتى أوينا إلى غار بمنًى فنزلت, فبينا نحن نتلقاها منه, وإنّ فاه لَرَطْب بها إذ وثَبَت حيّة, فوثبنا عليها لنقتلها فذهبت¹ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «وُقِيتم شَرّها كما وُقِيت شَرّكم». وعن كريب مولى ابن عباس قال: قرأت سورة {وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً} فسمعتني اُمّ الفضل امرأة العباس, فبكت وقالت: والله يا بنيّ لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لاَخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب. والله أعلم. وهي خمسون آية. بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
** قوله تعالى: {وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً * والنّاشِرَاتِ نَشْراً * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً * إِنّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ * فَإِذَا النّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السّمَآءُ فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ * وَإِذَا الرّسُلُ أُقّتَتْ * لأيّ يَوْمٍ أُجّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ }. قوله تعالى: {وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } جمهور المفسرين على أن المرسلات الرياح. وروى مسروق عن عبد الله قال: هي الملائكة أرسلت بالمعروف من أمر الله تعال ونهيه والخبر والوحي. وهو قول أبي هريرة ومقاتل وأبي صالح والكلبيّ. وقيل: هم الأنبياء أرسلوا بلا إلَه إلا الله¹ قاله ابن عباس. وقال أبو صالح: إنهم الرسل تُرْسَل بما يُعْرَفون به من المعجزات. وعن ابن عباس وابن مسعود: إنها الرياح¹ كما قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ} (الحجر: 22) وقال: {وَهُوَ الّذِي يُرْسِلُ الرّيَاحَ} (الأعراف: 57). ومعنى «عُرْفاً» يتبع بعضها بعضاً كعرف الفرس¹ تقول العرب: الناس إلى فلان عُرْفٌ واحد: إذا توجهوا إليه فأكثروا. وهو نصب على الحال من {وَالْمُرْسَلاَتِ} أي والرياح التي أرسلت متتابعة. ويجوز أن تكون مصدراً أي تِباعاً. ويجوز أن يكون النصب على تقدير حرف الجر, كأنه قال: والمرسلات بالعُرْف, والمراد الملائكة أو الملائكة والرسل. وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالمرسلات السحاب, لما فيها من نعمة ونقمة, عارفة بما أرسلت فيه ومن أرسلت إليه. وقيل: إنها الزواجر والمواعظ. و«عرفاً» على هذا التأويل متتابعات كعرف الفرس¹ قاله ابن مسعود. وقيل: جاريات¹ قاله الحسن¹ يعني في القلوب. وقيل: معروفات في العقول. {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً} الرياح بغير اختلاف¹ قاله المهدويّ. وعن ابن مسعود: هي الرياح العواصف تأتي بالعصف, وهو ورق الزرع وحُطَامه¹ كما قال تعالى: {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً} (الإسراء: 69). وقيل: العاصفات الملائكة الموكّلون بالرياح يعصفون بها. وقيل: الملائكة تعصف بروح الكافر¹ يقال: عصف بالشيء أي أباده وأهلكه, وناقة عَصُوف أي تعصف براكبها, فتمضي كأنها ريح في السرعة, وعصفت الحرب بالقوم أي ذهبت بهم. وقيل: يحتمل أنها الاَيات المهلكة كالزلازل والخسوف. {والنّاشِرَاتِ نَشْراً} الملائكة الموكلون بالسحب ينشرونها. وقال ابن مسعود ومجاهد: هي الرياح يرسلها الله تعالى نشراً بين يدي رحمته¹ أي تنشر السحاب للغيث. وروي ذلك عن أبي صالح. وعنه أيضاً: الأمطار¹ لأنها تنشر النبات, فالنشر بمعنى الإحياء¹ يقال: نشر الله الميّت وأنشره أي أحياه. وروى عنه السديّ: أنها الملائكة تنشر كتب الله عزّ وجلّ. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يريد ما ينشر من الكتب وأعمال بني آدم. الضحاك: إنها الصحف تنشر على الله بأعمال العباد. وقال الربيع: إنه البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح. قال: «وَالنّاشِرَاتِ» بالواو¹ لأنه استئناف قسم آخر. {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً} الملائكة تنزل بالفرق بين الحقّ والباطل¹ قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وأبو صالح. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: ما تفرق الملائكة من الأقوات والأرزاق والاَجال. وروى ابن إبي نجيح عن مجاهد قال: الفارقات الرياح تفرق بين السحاب وتبدّده. وعن سعيد عن قتادة قال: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً} الفرقان, فَرّق الله فيه بين الحق والباطل والحرام والحلال. وقاله الحسن وابن كيسان. وقيل: يعني الرسل فَرَقوا بين ما أمر الله به ونهى عنه أي بيّنوا ذلك. وقيل: السحابات الماطرة تشبيهاً بالناقة الفارق وهي الحامل التي تخرج وتَنِدّ في الأرض حين تضع, ونوق فَوارِقُ وفُرّق. وربما شبهوا السحابة التي تنفرد من السحاب بهذه الناقة¹ قال ذو الرمّة: أوْ مُزْنَةٌ فارقٌ يَجْلو غَوارِبَهاتَبَوّجُ الْبَرْقِ والظّلْمَاءُ عُلْجُومُ {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً} الملائكة بإجماع¹ أي تلقى كتب الله عز وجل إلى الأنبياء عليهم السلام¹ قاله المهدوي. وقيل: هو جبريل وسمي باسم الجمع¹ لأنه كان ينزل بها. وقيل: المراد الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل الله عليهم¹ قاله قُطْرب. وقرأ ابن عباس «فَالملقيّات» بالتشديد مع فتح القاف¹ وهو كقوله تعالى: {وَإِنّكَ لَتُلَقّى الْقُرْآنَ} (النمل: 6). {عُذْراً أَوْ نُذْراً}: أي تلقى الوحي إعذاراً من الله أو إنذاراً إلى خلقه من عذابه¹ قاله الفراء. وروي عن أبي صالح قال: يعني الرسل يُعذرون ويُنذرون. وروى سعيد عن قتادة «عَذْراً» قال: عذراً لله جلّ ثناؤه إلى خلقه, ونَذْراً للمؤمنين ينتفعون به ويأخذون به. وروى الضحاك عن ابن عباس. «عُذْراً» أي ما يلقيه الله جل ثناؤه من معاذير أوليائه وهي التوبة «أوْ نُذْراً» ينذر أعداءه. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص «أوْ نُذْراً» بإسكان الذال وجميع السبعة على إسكان ذال «عُذْراً» سوى ما رواه الجُعْفِيّ والأعشى عن أبي بكر عن عاصم أنه ضم الذال. وروي ذلك عن ابن عباس والحسن وغيرهما. وقرأ إبراهيم التّيمي وقتادة «عُذْراً وَنُذُراً» بالواو العاطفة ولم يجعلا بينهما ألفاً. وهما منصوبان على الفاعل له أي للإعذار أو للإنذار. وقيل: على المفعول به, قيل: على البدل من «ذِكْراً» أي فالملقيات عذراً أو نذراً. وقال أبو علي: يجوز أن يكون العذُر والنذُر بالتثقيل على جمع عاذر وناذر¹ كقوله تعالى: {هَـَذَا نَذِيرٌ مّنَ النّذُرِ الاُوْلَىَ} (النجم: 56) فيكون نصباً على الحال من الإلقاء¹ أي يلقون الذكر في حال العذر والإنذار. أو يكون مفعولاً لـ«ـذكراً» أي «فَالْمُلْقِيات» أي تُذَكّر {عُذْراً أَوْ نُذْراً}. وقال المبرد: هما بالتثقيل جمع والواحد عَذير ونَذير. {إِنّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} هذا جواب ما تقدم من القسم¹ أي ما توعدون من أمر القيامة لواقع بكم ونازل عليكم. ثم بيّن وقت وقوعه فقال: {فَإِذَا النّجُومُ طُمِسَتْ} أي ذهب ضوءها ومُحِي نورُها كطمس الكتاب¹ يقال: طَمَس الشيء إذا درس وطُمِس فهو مطموس, والريح تطمُس الاَثار فتكون الريح طامسة والأثر طامساً بمعنى مطموس. {وَإِذَا السّمَآءُ فُرِجَتْ} أي فُتِحت وشُقّت¹ ومنه قوله تعالى: {وَفُتِحَتِ السّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً} (النبأ: 19).وروى الضحاك عن ابن عباس قال: فُرجت للطيّ. {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} أي ذهب بها كلها بسرعة¹ يقال: نَسفْتُ الشيءَ وأنسفته: إذا أخذته كله بسرعة. وكان ابن عباس والكلبيّ يقول: سُوّيت بالأرض, والعرب تقول: فَرَس نَسُوق إذا كان يؤخر الحزام بمرفقيه¹ قال بِشْر: * نَسُـوفٌ لِلحِـزَام بمرفقيهـا * ونَسَفت الناقةُ الكلأ: إذا رعته. وقال المبرد: نُسِفت قُلِعت من موضعها¹ يقول الرجل للرجل يقتلع رجليه من الأرض: أنْسَفت رجلاه. وقيل: النّسْف تفريق الأجزاء حتى تذروها الرياح. ومنه نسف الطعام¹ لأنه يُحرّك حتى يذهب الريح بعض ما فيه من التّبْن. {وَإِذَا الرّسُلُ أُقّتَتْ} أي جمعت لوقتها ليوم القيامة, والوقت الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه¹ فالمعنى: جعل لها وقت وأجل للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم¹ كما قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ} (النساء: 109)). وقيل: هذا في الدنيا أي جمعت الرسل لميقاتها الذي ضرب لها في إنزال العذاب بمن كذبهم بأن الكفّار مُمْهَلون. وإنما تزول الشكوك يوم القيامة. والأوّل أحسن¹ لأن التوقيت معناه شيء يقع يوم القيامة, كالطمس ونَسْف الجبال وتشقيق السماء ولا يليق به التأقيت قبل يوم القيامة. قال أبو علي: أي جعل يوم الدين والفصل لها وقتاً. وقيل: اُقّتت وُعِدت واُجّلت. وقيل: {أُقّتَتْ} أي أرسلت لأوقات معلومة على ما علمه الله وأراد. والهمزة في {أُقّتَتْ} بدل من الواو¹ قاله الفراء والزجاج. قال الفراء: وكل واو ضُمّت وكانت ضمتها لازمة جاز أن يبدل منها همزة¹ تقول: صلّى القوم اِحْدانا تريد وِحْدانا, ويقولون هذه وُجُوه حسان و (اُجُوه). وهذا لأن ضمة الواو ثقيلة. ولم يجز البدل في قوله: «وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ» لأن الضمة غير لازمة. وقرأ أبو عمرو وحميد والحسن ونصر. وعن عاصم ومجاهد «وُقّتَتْ» بالواو وتشديد القاف على الأصل. وقال أبو عمرو: وإنما يقرى «اُقّتَتْ» من قال في وُجُوه أجُوه. وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج «وُقِتَت» بالواو وتخفيف القاف. وهو فُعِلّت من الوقت ومنه «كِتَاباً مَوْقُوتاً». وعن الحسن أيضاً: «وُوِقِتَتْ» بواوين, وهو فُوعِلت من الوقت إيضاً مثل عُوهِدت. ولو قلبت الواو في هاتين القراءتين ألفاً لجاز. وقرأ يحيـى وأيوب وخالد بن إلياس وسلاَم «اُقِتَتْ» بالهمزة والتخفيف¹ لأنها مكتوبة في المصحف بالألف. {لأيّ يَوْمٍ أُجّلَتْ}؟ أي أخرت, وهذا تعظيم لذلك اليوم فهو استفهام على التعظيم. أي {لِيَوْمِ الْفَصْلِ} اُجّلت. وروى سعيد عن قتادة قال: يفصل فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة أو إلى النار. وفي الحديث: «إذا حشر الناس يوم القيامة قاموا أربعين عاماً على رؤوسهم الشمسُ شاخصةً أبصارهم إلى السماء ينتظرون الفصل». {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} أتبع التعظيم تعظيماً¹ أي وما أعلمك ما يوم الفصل؟ {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} أي عذاب وخزي لمن كذّب بالله وبرسله وكتبه وبيوم الفصل فهو وعيد. وكرره في هذه السورة عند كل آية لمن كذب¹ لأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم, فإن لكل مكّذب بشيء عذاباً سوى تكذيبه بشيء آخر, ورُبّ شيء كذّب به هو أعظم جُرْماً من تكذيبه بغيره¹ لأنه أقبح في تكذيبه, وأعظم في الردّ على الله, فإنما يقسّم له من الويل على قدر ذلك, وعلى قدر وفاقه وهو قوله: {جَزَآءً وِفَاقاً}. وروي عن النعمان بن بشير قال: وَيْلٌ: وادٍ في جهنم فيه ألوان العذاب. وقاله ابن عباس وغيره. قال ابن عباس: إذا خَبَت جهنُم اُخذ من جمره فألقى عليها فيأكل بعضها بعضاً. وروي أيضاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عُرضت عليّ جهنم فلم أرَ فيها وادياً أعظم من الويْل» وروي أنه مَجْمَع ما يسيل من قيح أهل النار وصديدهم, وإنما يسيل الشيء فيما سفل من الأرض وانفطر, وقد علم العباد في الدنيا أن شر المواضع في الدنيا ما استنقع فيها مياه الأدناس والأقذار والغُسالات من الجيف وماء الحمامات¹ فذكر أن ذلك الوادي. مستنقع صديد أهل الكفر والشرك¹ ليعلم ذوو العقول أنه لا شيء أقذر منه قذارة, ولا أنتن منه نتْناً, ولا أشدّ منه مرارةً, ولا أشدّ سواداً منه¹ ثم وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تضمن من العذاب, وأنه أعظم وادٍ في جهنم, فذكره الله تعالى في وعيده في هذه السورة.
** قوله تعالى: أَلَمْ نُهْلِكِ الأوّلِينَ * ثُمّ نُتْبِعُهُمُ الاَخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ }. قوله تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأوّلِينَ} أخبر عن إهلاك الكفار من الأمم الماضين من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم. {ثُمّ نُتْبِعُهُمُ الاَخِرِينَ} أي نلحق الاَخرين بالأوّلين. {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} أي مثل ما فعلناه بمن تقدّم نفعل بمشركي قريش إما بالسيف: وإما بالهلاك. وقرأ العامة «ثُمّ نُتْبِعُهُمْ» بالرفع على الاستئناف, وقرأ الأعرج «نُتْبِعْهُمْ» بالجزم عطفاً على {نُهْلِكِ الأوّلِينَ} كما تقول: ألم تزرني ثم أكرمك. والمراد أنه أهلك قوماً بعد قوم على اختلاف أوقات المرسلين. ثم استأنف بقوله: {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} يريد من يهلك فيما بعد. ويجوز أن يكون الإسكان تخفيفاً من «نُتْبِعُهُم» لتوالي الحركات. وروي عنه الإسكان للتخفيف. وفي قراءة ابن مسعود «ثُمّ سَنُتْبِعُهُمْ» والكاف من {كَذَلِكَ} في موضع نصب, أي مثل ذلك الهلاك نفعله بكل مشرك. ثم قيل: معناه التهويل لهلاكهم في الدنيا اعتباراً. وقيل: هو إخبار بعذابهم في الاَخرة.
** قوله تعالى: أَلَمْ نَخْلُقكّم مّن مّآءٍ مّهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مّكِينٍ * إِلَىَ قَدَرٍ مّعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ }. قوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقكّم مّن مّآءٍ مّهِينٍ} أي ضعيف حقير وهو النطفة وقد تقدّم. وهذه الاَية أصل لمن قال: إن خلق الجنين إنما هو من ماء الرجل وحده. وقد مضى القول فيه. {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مّكِينٍ} أي في مكان حريز وهو الرّحم. {إِلَىَ قَدَرٍ مّعْلُومٍ} قال مجاهد: إلى أن نصوّره. وقيل: إلى وقت الولادة. {فَقَدَرْنَا} وقرأ نافع والكسائيّ «فَقَدّرْنَا» بالتشديد. وخفّف الباقون, وهما لغتان بمعنًى. قاله الكسائيّ والفراء والقُتَبي. قاله القُتَبي: قدرنا بمعنى قدّرنا مشدّدة: كما تقول: قدرت كذا وقدّرته¹ ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في الهلال: «إذا غُمّ عليكم فاقدُروا له» أي قدّروا له المسير والمنازل. وقال محمد بن الجهم عن الفراء: «فَقَدّرْنَا» قال: وذكر تشديدها عن عليّ رضي الله عنه وتخفيفها: قال: ولا يبعد أن يكون المعنى في التشديد والتخفيف واحداً¹ لأن العرب تقول: قَدَر عليه الموت وقَدّر: قال الله تعالى: {نَحْنُ قَدّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} (الواقعة: 60) قرىء بالتخفيف والتشديد, وقَدَر عليه رزقه وقَدّر. قال: واحتج الذين خَفّفوا فقالوا¹ لو كانت كذلك لكانت فنعم المقدّرون. قال الفراء: وتجمع العرب بين اللغتين¹ قال الله تعالى: {فَمَهّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} (الطارق: 17) قال الأعشى: وأنْكَرَتنِي وما كان الذي نَكِرَتْمن الحوادثِ إلا الشّيْبَ والصّلَعَا
وروي عن عكرمة {فَقَدَرْنَا} مخففة من القدرة, وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم والكسائيّ لقوله: {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} ومن شدّد فهو من التقدير, أي فقدّرنا الشقي والسعيد فنعم المقدّرون. رواه ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقيل: المعنى قدرنا قصيراً أو طويلاً. ونحوه عن ابن عباس: قدّرنا ملكنا. المهدوي: وهذا التفسير أشبه بقراءة التخفيف. قلت: هو صحيح فإن عِكرمة هو الذي قرأ {فَقَدَرْنَا} مخفّفاً قال: معناه فملكنا فنعم المالكون, فأفادت الكلمتان معنيين متغايرين¹ أي قدّرنا وقت الولادة وأحوال النطفة في التنقيل من حالة إلى حالة حتى صارت بشرًا سويّا, أو الشقيّ والسعيد, أو الطويل والقصير, كله على قراءة التشديد. وقيل: هما بمعنى كما ذكرنا.
** قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَآءً وَأَمْواتاً * وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مّآءً فُرَاتاً * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ }. فيه مسألتان: الأولى ـ قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتاً} أي ضامّة تضم الأحياء على ظهورها والأموات في بطنها. وهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه, ودفن شعره وسائر ما يزيله عنه. وقوله عليه السلام: «قُصّوا أظافركم وادفنوا قُلاَماتِكم» وقد مضى في «البقرة» بيانه. يقال: كَفَتّ الشيء أكْفِته: إذا جمعته وضممته, والكَفْت: الضم والجمع¹ وأنشد سيبويه. كِرامٌ حينَ تَنْكفتُ الأفَاعيإلى أحْجَارهنّ من الصّقِيعِ
وقال أبو عبيد: {كِفَاتاً} أوعية. ويقال لِلنّحْي: كِفْت وكَفِيت, لأنه يحوي اللبن ويضمه قال: فأنت اليومَ فوقَ الأرض حَيّاوأنت غداً تَضُمّكَ في كِفَات
وخرج الشّعبيّ في جنازة فنظر إلى الجَبّان فقال: هذهِ كفات الأموات, ثم نظر إلى البيوت فقال: هذه كِفات الأحياء. و (الثانية) ـ روي عن ربيعة في النّبّاش قال تقطَع يده فقيل له: لم قلت ذلك؟ قال: إن الله عز وجل يقول: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتاً} {أَحْيَآءً وَأَمْواتاً} فالأرض حِرْز. وقد مضى هذا في سورة «المائدة». وكانوا يسمّون بَقِيع الغَرْقد كَفْتة, لأنه مقبرة تضم الموتى, فالأرض تضم الأحياء إلى منازلهم والأموات في قبورهم. وأيضاً استقرار الناس على وجه الأرض, ثم اضطجاعهم عليها, انضمام منهم إليها. وقيل: هي كِفات للأحياء يعني دفن ما يخرج من الإنسان من الفضلات في الأرض¹ إذ لا ضَمّ في كون الناس عليها, والضّمّ يشير إلى الاحتفاف من جميع الوجوه. وقال الأخفش وأبو عبيدة ومجاهد في أحد قوليه: الأحياء والأموات ترجع إلى الأرض, أي الأرض منقسمة إلى حيّ وهو الذي ينبت, وإلى ميت وهو الذي لا ينبت. وقال الفراء: انتصب {أَحْيَآءً وَأَمْواتاً} بوقوع الكِفات عليه¹ أي ألم نجعل الأرض كِفات أحياء وأموات. فإذا نوّنت نصبت¹ كقوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} {يَتِيماً} (البلد: 14). وقيل: نصب على الحال من الأرض, أي منها كذا ومنها كذا. وقال الأخفش: «كِفَاتًا» جمع كافتة والأرض يراد بها الجمع فنعتت بالجمع. وقال الخليل: التكفيت: تقليب الشيء ظهراً لبطن أو بطناً لظهر. ويقال: انكفت القومُ إلى منازلهم أي انقلبوا. فمعنى الكِفات أنهم يتصرفون على ظهرها وينقلبون إليها ويدفنون فيها. {وَجَعَلْنَا فِيهَا} أي في الأرض {رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} يعني الجبال, والرواسي الثوابت, والشامخات الطوال¹ ومنه يقال: شمخ بأنفه إذا رفعه كبراً. قال: {وَأَسْقَيْنَاكُم مّآءً فُرَاتاً} أي وجعلنا لكم سُقْيا. والفُرَات: الماء العذب يشرب ويسقي منه الزرع. أي خلقنا الجبال وأنزلنا الماء الفرات. وهذه الأمور أعجب من البعث. وفي بعض الحديث قال أبو هريرة: في الأرض من الجنة الفُرَات والدّجلة ونهر الأردن. وفي صحيح مسَلم سيحان وَجَيْحان والنيل والفُرات كلّ من أنهار الجنة.
** قوله تعالى: انطَلِقُوَاْ إِلَىَ مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ * انطَلِقُوَاْ إِلَىَ ظِلّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ * لاّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللّهَبِ * إِنّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ }. قوله تعالى: {انطَلِقُوَاْ إِلَىَ مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} أي يقال للكفار سيروا {إِلَىَ مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} من العذاب يعني النار, فقد شاهدتموها عياناً. {انطَلِقُوَاْ إِلَىَ ظِلّ} أي دخان {ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ} يعني الدخان الذي يرتفع ثم يتشعب إلى ثلاث شعب. وكذلك شأن الدخان العظيم إذا ارتفع تشعب. ثم وصف الظلّ فقال: {لاّ ظَلِيلٍ} أي ليس كالظلّ الذي بقى حرّ الشمس {وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللّهَبِ} أي لا يدفع من لهب جهنم شيئاً. واللهب ما يعلو على النار إذ اضطرمت, من أحمر وأصفر وأخضر. وقيل: إن الشّعَب الثلاث هي الضريع والزّقّوم والغِسْلين¹ قاله الضحاك. وقيل: اللهب ثم الشرر ثم الدخان¹ لأنها ثلاثة أحوال, هي غاية أوصاف النار إذا اضطرمت واشتدّت. وقيل: عُنُق يخرج من النار فيتشعب ثلاث شعب. فأما النور فيقف على رؤوس المؤمنين, وأما الدخان فيقف على رؤوس المنافقين, وأما اللهب الصافي فيقف على رؤوس الكافرين. وقيل: هو السّرَادق, وهو لسان من نار يحيط بهم, ثم يتشعب منه ثلاث شعب, فتظللهم حتى يُفْرَغ من حسابهم إلى النار. وقيل: هو الظلّ من يَحْموم¹ كما قال تعالى: {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ * لاّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } (الواقعة: 42) على ما تقدّم. وفي الحديث: «إن الشمس تدنو من رؤوس الخلائق وليس عليهم يومئذ لباس ولا لهم أكفان فتلحقهم الشمس وتأخذ بأنفاسهم ومُدّ ذلك اليوم, ثم ينجّي الله برحمته من يشاء إلى ظلّ من ظلّه فهنالك يقولون: {فَمَنّ اللّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السّمُومِ} (الطور: 27)» ويقال للمكذبين: {انطَلِقُوَاْ إِلَىَ مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} من عذاب الله وعقابه {انطَلِقُوَاْ إِلَىَ ظِلّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ}. فيكون أولياء الله جلّ ثناؤه في ظلّ عرشه أو حيث شاء من الظلّ, إلى أن يفرغ من الحساب ثم يؤمر بكل فريق إلى مستقرّه من الجنة والنار. ثم وصف النار فقال: {إِنّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} الشرر: واحدته شررة. والشرار: واحدته شرارة, وهو ما تطاير من النار في كل جهة, وأصله من شَرّرَتُ الثوبَ إذا بسطته للشمس ليجفّ. والقصر البناء العالي. وقراءة العامة «كَالْقَصْرِ» بإسكان الصاد: أي الحصون والمدائن في العِظم وهو واحد القصور. قاله ابن عباس وابن مسعود. وهو في معنى الجمع على طريق الجنس. وقيل: القصر جمع قَصْرةٍ ساكنة الصاد, مثل جَمْرَة, وجَمْرٍ وتَمْرة وتَمْر. والقصرة: الواحدة من جَزْل الحطب الغليظ. وفي البخاريّ عن ابن عباس أي «تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصَرِ» قال كنا نرفع الخشبَ بقَصَرٍ ثلاثة أذرعٍ أو أقلّ, فنرفعه للشتاء, فنسميه القَصَر. وقال سعيد بن جُبير والضحاك: هي أصول الشجر والنخل العظام إذا وقع وقُطِع. وقيل: أعناقه. وقرأ ابن عباس ومجاهد وحُميد والسّلميّ «كَالْقَصَرِ» بفتح الصاد, أراد أعناق النخل. والقَصَرة العنق, جمعها قَصَر وقَصَرات. وقال قتادة: أعناق الإبل. وقرأ سعيد بن جُبير بكسر القاف وفتح الصاد, وهي أيضاً جمع قَصْرة مثل بَدْرة وبِدَر وقَصْعة وقِصَع وحَلْقَة وحِلَق, لحِلقِ الحديد. وقال أبو حاتم: ولعله لغة, كما قالوا حاجَة وحِوَج. وقيل: القَصْر: الجبل, فشبه الشرر بالقَصْر في مقاديره, ثم شبهه في لونه بالجمالات الصّفْر, وهي الإبل السود¹ والعرب تسمى السّود من الإبل صُفْراً¹ قال الشاعر: تِلْكَ خَيْلي منه وتلك رِكَابِيهُنّ صُفْرٌ أوْلاَدُها كالزّبِيبِ أي هنّ سود. وإنما سُمّيت السود من الإبل صُفراً لأنه يشوب سوادها شيء من صُفرة¹ كما قيل لِبيض الظباء: الأدْم¹ لأن بياضها تعلوه كُدْرة: والشرر إذا تطاير وسقط وفيه بقية من لون النار أشبه شيء بالإبل السود, لما يشوبُها من صُفْرة. وفي شعر عِمْران بن حِطّان الخارجيّ: دَعَتْهُمْ بِأعلى صَوْتِها وَرَمَتْهُمُبِمثلِ الجِمالِ الصّفْرِ نزّاعةُ الشّوَى
وضعّف الترمِذِيّ هذا القول فقال: وهذا القول محال في اللغة, أن يكون شيء يشوبه شيء قليل, فنسب كله إلى ذلك الشائب, فالعجب لمن قد قال هذا, وقد قال الله تعالى: {جِمَالَةٌ صُفْرٌ} فلا نعلم شيئاً من هذا في اللغة. ووجهه عندنا أن النار خُلِقت من النور فهي نار مضيئة, فلما خلق الله جهنم وهي موضع النار, حشا ذلك الموضع بتلك النار, وبعث إليها سلطانه وغضبه, فاسودّت من سلطانه وازدادت حِدّة, وصارت أشدّ سواداً من النار ومن كل شيء سواداً, فإذا كان يوم القيامة وجيء بجهنم في الموقف رمت بشررها على أهل الموقف, غضباً لغضب الله, والشرر هو أسود, لأنه من نار سوداء, فإذا رمت النار بشررها فإنها ترمي الأعداء به, فهنّ سود من سواد النار, لا يصل ذلك إلى الموحدين¹ لأنهم في سرادق الرحمة أحاط بهم في الموقف, وهو الغمام الذي يأتي فيه الربّ تبارك وتعالى, ولكن يعاينون ذلك الرمي, فإذا عاينوه نزع الله ذلك السلطان والغضب عنه في رأي العين منهم حتى يروها صفراء¹ ليعلم الموحدون أنهم في رحمة الله لا في سلطانه وغضبه. وكان ابن عباس يقول: الجِمالات الصّفر: حِبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال. ذكره البخاري. وكان يقرؤها «جُمَالاَتٌ» بضم الجيم, وكذلك قرأ مجاهد وحُميد «جُمَالاَت» بضم الجيم, وهي الحبال الغلاظ, وهي قُلُوس السفينة أي حبالها. وواحد القُلُوس: قَلْس. وعن ابن عباس أيضاً على أنها قطع النحاس. والمعروف في الحبل الغليظ جُمّل بتشديد الميم كما تقدم في «الأعراف». «وجُمَالاَت» بضم الجيم: جمع جِمالة بكسر الجيم مُوَحّدًا, كأنه جمع جَمَل, نحو حَجَر وحجارة, وذَكَر وذِكَارة. وقرأ يعقوب وابن أبي إسحاق وعيسى والجَحْدَريّ «جُمَالة» بضم الجيم موحداً وهي الشيء العظيم المجموع بعضه إلى بعض. وقرأ حفص وحمزة والكسائي «جِمَالة» وبقية السبعة «جِمَالاَت» قال الفراء: يجوز أن تكون الجِمالات جمع جِمال كما يقال: رجال ورِجال ورِجالات. وقيل: شبهها بالجمالات لسرعة سيرها. وقيل: لمتابعة بعضها بعضاً. والقَصْر: واحد القصور. وقَصْر الظلام: اختلاطه. ويقال: أتيته قصراً أي عَشِيّا, فهو مشترك¹ قال: كَأنّهُمُ قَصْراً مَصابِيحُ راهِبٍبِمَوْزَنَ رَوّى بالسّلِيطِ ذُبالَها
مسألة ـ في هذه الاَية دليل على جواز ادْخار الحطب والفحم وإن لم يكن من القوت, فإنه من مصالح المرء ومغانِي مفاقِرِهِ. وذلك مما يقتضي النظر أن يكتسبه في غير وقت حاجته¹ ليكون أرخص وحالة وجوده أمكن, كما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدّخر القوت وفي وقت عموم وجوده من كسبه وماله, وكل شيء محمول عليه. وقد بين ابن عباس هذا بقوله: كنا نعمد إلى الخشبة فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه وندّخره للشتاء وكنا نسميه القَصَر. وهذا أصح ما قيل في ذلك والله أعلم.
** قوله تعالى: هَـَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ }. قوله تعالى: {هَـَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} أي لا يتكلمون {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} أي إن يوم القيامة له مواطن ومواقيت, فهذا من المواقيت التي لا يتكلّمون فيها, ولا يؤذن لهم في الاعتذار والتنصل. وعن عِكرمة عن ابن عباس قال: سأله ابن الأزرق عن قوله تعالى: {هَـَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} و {فَلاَ تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً} (طه: 108)وقد قال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} (الصافات: 27) فقال له: إناالله عز وجل يقول: {وَإِنّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ} (الحج: 47) فإن لكل مقدار من هذه الأيام لوناً من هذه الألوان. وقيل: لا ينطقون بحجة نافعة, ومن نطق بما لا ينفع ولا يفيد فكأنه ما نطق. قال الحسن: لا ينطقون بحجة وإن كانوا ينطقون. وقيل: إن هذا وقت جوابهم {اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} (المؤمنون: 108) وقد تقدم. وقال أبو عثمان: أسكتتهم رؤيةُ الهيبة وحياءُ الذنوب. وقال الجُنيد: أيّ عذر لمِن أعرض عن مُنعِمهِ وجحده وكفر أياديه ونِعمه؟ و «يوم» بالرفع قراءة العامة على الابتداء والخبر¹ أي تقول الملائكة: «هذا يوم لا ينطِقون». ويجوز أن يكون قوله: «انطلِقوا» من قول الملائكة, ثم يقول الله لأوليائه: هذا يوم لا ينطِق الكُفّار. ومعنى اليوم الساعة والوقت. وروى يحيـى بن سلطان عن أبي بكر عن عاصم «هذا يومَ لا ينطِقون» بالنصب, ورُوِيتْ عن ابن هُرْمز وغيره, فجاز أن يكون مبنياً لإضافته إلى الفعل وموضعه رفع. وهذا مذهب الكوفيين. وجاز أن يكون في موضع نصب على أن تكون الإشارة إلى غير اليوم. وهذا مذهب البصريين¹ لأنه إنما بني عندهم إذا أضيف إلى مبنيّ, والفعل هاهنا معرب. وقال الفراء في قوله تعالى: {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} الفاء نَسْق أي عطف على «يُؤْذَن», وأجيز ذلك¹ لأن أواخر الكلام بالنون. ولو قال: فيعتذروا لم يوافق الاَيات. وقد قال: {لاَ يُقْضَىَ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ} بالنصب وكله صواب¹ ومثله: {مّن ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ} بالنصب والرفع.
** قوله تعالى: هَـَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوّلِينَ * فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ }. قوله تعالى: {هَـَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} أي ويقال لهم هذا اليوم الذي يُفْصل فيه بين الخلائق¹ فيتبين المحقّ من المبطل. {جَمَعْنَاكُمْ وَالأوّلِينَ} قال ابن عباس: جمع الذين كذّبوا محمداً والذين كذّبوا النبيين من قبله. رواه عنه الضحاك. {فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ} أي حيلة في الخلاص من الهلاك {فَكِيدُونِ} أي فاحتالوا لأنفسكم وقاوُوْني ولن تجدوا ذلك. وقيل: أي {فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ} أي قدرتم على حرب «فَكِيدُونِي» أي حاربوني. كذا روى الضحاك عن ابن عباس. قال: يريد كنتم في الدنيا تحاربون محمداً صلى الله عليه وسلم وتحاربونني فاليوم حاربوني. وقيل: أي إنكم كنتم في الدنيا تعملون بالمعاصي وقد عجزتم الاَن عنها وعن الدّفْع عن أنفسكم. وقيل: إنه من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم, فيكون كقول هود: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمّ لاَ تُنظِرُونِ} (هود: 55)
** قوله تعالى: إِنّ الْمُتّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمّا يَشْتَهُونَ * كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيـَئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ }. قوله تعالى: {إِنّ الْمُتّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ} أخبر بما يصير إليه المتقون غداً, والمراد بالظلال ظلال الأشجار وظلال القصور مكان الظلّ في الشعب الثلاث. وفي سورة يَس {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأرَآئِكِ مُتّكِئُونَ}. (يَس: 56) {وَفَوَاكِهَ مِمّا يَشْتَهُونَ} أي يتمنون. وقراءة العامة «ظِلاَلٍ». وقرأ الأعرج والزهريّ وطلحة «ظُلَلٍ» جمع ظُلّة يعني في الجنة. {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ} أي يقال لهم غداً هذا بدل ما يقال للمشركين {فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ}. فـ «ـكُلُوا وَاشْرَبُوا» في موضع الحال من ضمير «الْمُتّقِينَ» في الظرف الذي هو «فِي ظِلاَلٍ» أي هم مستقرّون «فِي ظِلاَلٍ» مقولاً لهم ذلك. {إِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأعمالهم في الدنيا.
** قوله تعالى: كُلُواْ وَتَمَتّعُواْ قَلِيلاً إِنّكُمْ مّجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ }. قوله تعالى: {كُلُواْ وَتَمَتّعُواْ قَلِيلاً} هذا مردود إلى ما تقدم قبلَ المتقين, وهو وعيد وتهديد وهو حال من «المُكَذّبِينَ» أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم: {كُلُواْ وَتَمَتّعُواْ قَلِيلاً}. {إِنّكُمْ مّجْرِمُونَ} أي كافرون. وقيل: مكتسبون فعلاً يضركم في الاَخرة, من الشرك والمعاصي.
** قوله تعالى: وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ * فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ }. قوله تعالى: {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ} أي إذا قيل لهؤلاء المشركين: {ارْكَعُواْ} أي صلّوا {لاَ يَرْكَعُونَ} أي لا يصلون¹ قاله مجاهد. وقال مقاتل: نزلت في ثقيف, امتنعوا من الصلاة فنزل ذلك فيهم. قال مقاتل: قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أسلموا» وأمرهم بالصلاة فقالوا: لا ننحني فإنها مَسبّة علينا, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود». يُذْكَر أن مالكاً رحمه الله دخل المسجد بعد صلاة العصر, وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر, فجلس ولم يركع, فقال له صبيّ: يا شيخ قم فاركع. فقام فركع ولم يحاجّه بما يراه مذهباً, فقيل له في ذلك, فقال: خشيت أن أكون من الذين {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ}. وقال ابن عباس: إنما يقال لهم هذا في الاَخرة حين يُدْعون إلى السجود فلا يستطيعون. قتادة: هذا في الدنيا. ابن العربيّ: هذه الاَية حجة على وجوب الركوع وإنزاله ركناً في الصلاة وقد انعقد الإجماع عليه, وظن قوم أن هذا إنما يكون في القيامة وليست بدار تكليف فيتوجه فيها أمر يكون عليه ويل وعقاب, وإنما يُدْعون إلى السجود كشفاً لحالِ الناس في الدنيا, فمن كان لِلّهِ يسجد يمكن من السجود, ومن كان يسجد رثاء لغيره صار ظهره طَبَقاً واحداً. وقيل: أي إذا قيل لهم اخضعوا للحق لا يخضعون, فهو عام في الصلاة وغيرها وإنما ذكر الصلاة, لأنها أصل الشرائع بعد التوحيد. وقيل: الأمر بالإيمان¹ لأنها لا تصح من غير إيمان. قوله تعالى: {فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أي إن لم يصدقوا بالقرآن الذي هو المعجز والدلالة على صدق الرسول عليه السلام, فبأي شيء يصدّقون! وكُرّر «ويل يومِئذٍ للمكذبِين» لمعنى تكرير التخويف والوعيد. وقيل: ليس بتكرار, لأنه أراد بكل قول منه غير الذي أراد بالاَخر¹ كأنه ذكر شيئاً فقال: ويل لمن يكذب بهذا, ثم ذكر شيئاً آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا, ثم ذكر شيئاً آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا. ثم كذلك إلى آخرها. ختمت السورة ولله الحمد.
| |
|